كلما يممتُ صوب البحر بللني المطر ورجعت أبكي للرمال...
يحدثُ أن يولد المرء رمادياً في عالم الوسط، لا يطال البياض ولا يطأ السواد، يترنح بينهما على برزخ الرفض ومحاولات الانصهار. يُدرك كلماتي جيداً كل من يحمل تاريخ 1948 فوق خيمته... الخيمة التي تطورت مع تطور تعايشنا لتغدو طوابق، ترتفع شاهرة نفسها صرخة في وجه الوجود، فيهزأ بها! علم الأمم المتحدة غمدٌ من خيوط العنكبوت.
يوماً ما، أغمضنا عيوننا عن نكبتنا وأدرنا ظهورنا المقوسة عنها ومضينا صوب متاعب الحياة اليومية بكل ما أوتينا من تماه لبناء حياة تتناسب وهجين انتمائنا في رحمٍ صناعي على شكل وطن له اسم (المخيم)، فارتدنا المدارس والمقاهي، الملاعب والمتاحف، المساجد والحانات والبيوت والشوارع والمسارح والجامعات والأسواق ... وبثثنا الحرارة في كل ما كنا دون أن ندرك أن سمّاً ما يبثُّ في حاضنتنا شيئاً فشيئا ليجهض الحمل!
يحدث أن تغدو الأيام مرايا، كنتُ أحد الأجنة الرمادية أحمل حقائبي وأغادر الرحم الصناعية (المخيم) تحت انعكاس خيال جدي، أعيد تاريخه بجسدي، هي هجرةٌ أخرى يا درويش...
الخيمة المتعددة الطوابق ترقص على وقع القنابل، يتنهد هرمٌ يقف أمامي في طابور المساعدات - حيث يرتفع العلم الأزرق مرفرفاً مرةً أخرى فوق ألوانٍ كثيرة - يقول: بنيتُ أحلاماً كثيرة لكن كلها من طابقٍ واحد...
لا فرق يا عم، الرقص عادل يساوي بيننا... أحرص على مكاني في الطابور بينما يتشاجر رماديون آخرون على خطاهم... تشتد قوة الإيقاع بينما تخر كثير من المباني أو تنخر من السارقين.
أُضيء بوصلتي لا عودة لفلسطين، فالعرب مشغولون بتفتتهم والعالم منهمك بعد الصناديق الكرتونية التي يرسلها لنا مقسماً إياها بين رصاص وخبز. أحركُ عقرب بوصلتي لن يتسع ظهري لكل إرثي ألمع صورة جدي وأمضي... هو البحر مرة أخرى!
يوم قُلبت الخيمة غدت قارباً والملح صلة الوصل بين الماء والدمع ، أخرج من غرقي منكمشاً تحت شمس الشرق أذكر جغرافيا الدرويش (من لا بر له لا بحر له)... أخطأنا في رسم الحدود.
أرتب أسماء الشهداء ممن هم رماديون مثلي يبحثون عن اللون والانتماء، أحتار في خيمتي المتخمة بالخذلان وبالدماء، أين سأنصبها تحت أي سماء؟
[نشرت للمرة الأولى في "حبرعربي" ويعاد نشرها بالاتفاق مع الكاتبة]